كل البشر الأسوياء في العالم، وبصرف النظر عن أصلهم العرقي أو عقيدتهم، أو توجههم السياسي والفكري، يرون أن الشعب الفلسطيني هو الآن من أكثر شعوب العالم تعرضاً للظلم وسلب الحقوق. وكل هؤلاء ينادون بضرورة «إنصاف» هذا الشعب، وتمكينه من الحصول على الحد الأدنى – على الأقل – من حقوقه المشروعة، ومن ثم إقامة سلام دائم وعادل بالمنطقة العربية. وكل هؤلاء يرون أن «السلام» بين العرب والصهاينة لا يمكن أن يتحقق ما لم ينل الشعب الفلسطيني حقوقه، وتُلجَم إسرائيل عن العربدة بالمنطقة. وقد انتهت غالبية العالم إلى ضرورة المساعدة لإعطاء الفلسطينيين حقوقهم، إما في دولة واحدة تضمهم مع اليهود (حل الدولة الواحدة) أو في دولة مستقلة خاصة بهم (حل الدولتين).
فقط أولئك المكابرون المتصهينون ينكرون على الفلسطينيين حقوقهم في أرضهم التي عاشوا فيها لأكثر من ألفي عام سابقين. ونسبة كبيرة من يهود العالم تؤيد تمكين الفلسطينيين من الحصول على حقوقهم، وتدعو إسرائيل، وكل العالم، لتحقيق هذا الهدف السياسي الإنساني الملح. ولكن أغلب حكام إسرائيل، وغلاة الصهاينة، يصمون آذانهم عن هذه المطالب العادلة، ويمضون، بخبث وتصميم عجيبين، في محاولاتهم المحمومة «تهويد» كامل فلسطين، وتصفية القضية الفلسطينية، والتحضير للهيمنة الإقليمية والعالمية، المأمولة صهيونياً (إسرائيل الكبرى).
***
وحتى ضمن صهاينة اليهود، هناك أصوات عاقلة، تعي الواقع... وتدعو للمسارعة في حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً، إما داخل دولة واحدة، أو دولتين، إحداهما يهودية والأخرى فلسطينية. وهؤلاء الصهاينة «المعتدلون» يدعون لـ «السلام» بين العرب وإسرائيل، ويصرحون بأن هذا السلام لا يمكن أن يتحقق دون إنصاف الفلسطينيين. ومن هؤلاء السيد «يوري أفنيري» (Uri Aveniry) اليهودي الصهيوني الذي قدم إلى فلسطين من ألمانيا. حيث ولد باسم «هيلموت أوسترمان» يوم 10/ 9/ 1923م، وأتى إلى فلسطين (غازياً محتلاً، مع عائلته) عام 1933م. وهو أصلاً صحفي إسرائيلي، انخرط في صفوف مليشيا «الأرغون» الإرهابية، وهو في سن الخامسة عشرة. وشارك في حرب 1948م. وقد كان عضواً في الحركة الصهيونية التعديلية، وانتخب عضواً في الكنيست، وانتهى ناشطاً يسارياً إسرائيلياً ومن أشد أنصار السلام مع الفلسطينيين والعرب. وأسس عام 1993م حركة «كتلة السلام» (جوش شلوم).
وكان أفنيري أول إسرائيلي يقابل الزعيم ياسر عرفات. إذ التقاه أثناء حصار بيروت، يوم 3 يوليو 1982م. وهو يهودي علماني معارض لنفوذ اليهود الأرثوذكس على الحياة السياسية في إسرائيل، ومعارض لليمين الإسرائيلي المتمثل في حزب «ليكود» وغيره. وهو مع حل الدولتين. فحركته تدعو لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، في أقرب وقت ممكن. وله عدة كتب ومقالات، ترجم بعضها للعربية. وفي أحد كتبه اعترف أنه كان إرهابياً بعضويته في حركة «أرغون»، وأعرب عن ندمه على ذلك. وقال عبارة مشهورة وهي: «أنت لا تستطيع أن تحدثني عن الإرهاب، فأنا كنت إرهابياً».
الرجل يؤمن – بصفة عامة – بضرورة تحقيق الحد الأدنى من الحقوق المشروعة للفلسطينيين، وإقامة دولتهم المستقلة، وعقد السلام (العادل) بين العرب وإسرائيل، ويرفض فكرة إنشاء إسرائيل الكبرى. فذلك – في رأيه – في صالح إسرائيل قبل أن يكون في صالح العرب والفلسطينيين. ويرى أفنيري، في مقال له نشر بعنوان «إسرائيل: السنوات الستون المقبلة» بمناسبة مرور ستين عاماً على قيام إسرائيل: أن «اليوم الوطني الإسرائيلي ويوم النكبة الفلسطيني، هما وجهان لعملة واحدة». وتابع: «وخلال الستين عاماً الماضية لم ننجح في – ولم تحاول إسرائيل أيضاً – إيجاد حقيقة أخرى. ولهذا السبب ما تزال رحى الحرب تدور». وتساءل عما إذا كان من المحتمل أن يختلف الوضع، وأن: «نصبح جزءاً من الإقليم...». وقد توفي يوري أفنيري مؤخراً، يوم 20 أغسطس 2018م، عن عمر يناهز الـ 95 عاماً.
***
إنه أحد دعاة السلام الصهاينة، وهم الآن قلة قليلة جداً. فالغالب على المجتمع الإسرائيلي هو التشدد، ورفض إقامة الدولة الفلسطينية. الغالبية الصهيونية الإسرائيلية ترفض حل الدولتين، وحل الدولة الواحدة، وتقترح حلاً هلامياً مشوهاً، أعلن الفلسطينيون وغالبية العرب مراراً، أنهم لن يقبلوه. ومع ذلك، هناك صهاينة ومتصهينون يصرون على تمرير «صفقة» خاسرة، تخدم إسرائيل فقط... بل إن طرحها سيضيف زيتاً على نار الاضطراب المشتعلة في المنطقة.
عقلاء الصهاينة، أمثال «أفنيري» وغيره، أدركوا أن لا حل لهذا الصراع المفروض على الفلسطينيين والعرب، إلا عبر إقامة دولة واحدة يعيش فيها كل مواطنيها على قدم المساواة. فإن تعذَّر ذلك، فدولتان، كما أجمع المجتمع الدولي. رفض هذين الحلين يعني (بالضرورة): رفضاً قاطعاً للسلام. ولا تكترث إسرائيل بتبعات هذا الرفض، طالما ظلت أمريكا داعمة لها، وفي كل ما يريده حكامها المتطرفون.
إسرائيل ترمي بكل دعوات السلام في مزبلة عنصريتها وتشددها، حتى وإن أتت هذه الدعوات من صهاينة. سيستمر هذا الصراع، وقد يأتي يوم يندم فيه غلاة الصهاينة على تعسفهم وعنادهم هذا، وعملهم على وأد كل محاولات حل الصراع، وإقامة السلام. لقد تلاشى حتى «سراب» السلام... كان سراباً، ومضى. فالصهاينة لا يريدون سلاماً، بل استسلاماً. إنهم يريدون إقامة إسرائيل الكبرى. هم لن يرضوا بما دون ذلك.
* كاتب سعودي
فقط أولئك المكابرون المتصهينون ينكرون على الفلسطينيين حقوقهم في أرضهم التي عاشوا فيها لأكثر من ألفي عام سابقين. ونسبة كبيرة من يهود العالم تؤيد تمكين الفلسطينيين من الحصول على حقوقهم، وتدعو إسرائيل، وكل العالم، لتحقيق هذا الهدف السياسي الإنساني الملح. ولكن أغلب حكام إسرائيل، وغلاة الصهاينة، يصمون آذانهم عن هذه المطالب العادلة، ويمضون، بخبث وتصميم عجيبين، في محاولاتهم المحمومة «تهويد» كامل فلسطين، وتصفية القضية الفلسطينية، والتحضير للهيمنة الإقليمية والعالمية، المأمولة صهيونياً (إسرائيل الكبرى).
***
وحتى ضمن صهاينة اليهود، هناك أصوات عاقلة، تعي الواقع... وتدعو للمسارعة في حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً، إما داخل دولة واحدة، أو دولتين، إحداهما يهودية والأخرى فلسطينية. وهؤلاء الصهاينة «المعتدلون» يدعون لـ «السلام» بين العرب وإسرائيل، ويصرحون بأن هذا السلام لا يمكن أن يتحقق دون إنصاف الفلسطينيين. ومن هؤلاء السيد «يوري أفنيري» (Uri Aveniry) اليهودي الصهيوني الذي قدم إلى فلسطين من ألمانيا. حيث ولد باسم «هيلموت أوسترمان» يوم 10/ 9/ 1923م، وأتى إلى فلسطين (غازياً محتلاً، مع عائلته) عام 1933م. وهو أصلاً صحفي إسرائيلي، انخرط في صفوف مليشيا «الأرغون» الإرهابية، وهو في سن الخامسة عشرة. وشارك في حرب 1948م. وقد كان عضواً في الحركة الصهيونية التعديلية، وانتخب عضواً في الكنيست، وانتهى ناشطاً يسارياً إسرائيلياً ومن أشد أنصار السلام مع الفلسطينيين والعرب. وأسس عام 1993م حركة «كتلة السلام» (جوش شلوم).
وكان أفنيري أول إسرائيلي يقابل الزعيم ياسر عرفات. إذ التقاه أثناء حصار بيروت، يوم 3 يوليو 1982م. وهو يهودي علماني معارض لنفوذ اليهود الأرثوذكس على الحياة السياسية في إسرائيل، ومعارض لليمين الإسرائيلي المتمثل في حزب «ليكود» وغيره. وهو مع حل الدولتين. فحركته تدعو لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، في أقرب وقت ممكن. وله عدة كتب ومقالات، ترجم بعضها للعربية. وفي أحد كتبه اعترف أنه كان إرهابياً بعضويته في حركة «أرغون»، وأعرب عن ندمه على ذلك. وقال عبارة مشهورة وهي: «أنت لا تستطيع أن تحدثني عن الإرهاب، فأنا كنت إرهابياً».
الرجل يؤمن – بصفة عامة – بضرورة تحقيق الحد الأدنى من الحقوق المشروعة للفلسطينيين، وإقامة دولتهم المستقلة، وعقد السلام (العادل) بين العرب وإسرائيل، ويرفض فكرة إنشاء إسرائيل الكبرى. فذلك – في رأيه – في صالح إسرائيل قبل أن يكون في صالح العرب والفلسطينيين. ويرى أفنيري، في مقال له نشر بعنوان «إسرائيل: السنوات الستون المقبلة» بمناسبة مرور ستين عاماً على قيام إسرائيل: أن «اليوم الوطني الإسرائيلي ويوم النكبة الفلسطيني، هما وجهان لعملة واحدة». وتابع: «وخلال الستين عاماً الماضية لم ننجح في – ولم تحاول إسرائيل أيضاً – إيجاد حقيقة أخرى. ولهذا السبب ما تزال رحى الحرب تدور». وتساءل عما إذا كان من المحتمل أن يختلف الوضع، وأن: «نصبح جزءاً من الإقليم...». وقد توفي يوري أفنيري مؤخراً، يوم 20 أغسطس 2018م، عن عمر يناهز الـ 95 عاماً.
***
إنه أحد دعاة السلام الصهاينة، وهم الآن قلة قليلة جداً. فالغالب على المجتمع الإسرائيلي هو التشدد، ورفض إقامة الدولة الفلسطينية. الغالبية الصهيونية الإسرائيلية ترفض حل الدولتين، وحل الدولة الواحدة، وتقترح حلاً هلامياً مشوهاً، أعلن الفلسطينيون وغالبية العرب مراراً، أنهم لن يقبلوه. ومع ذلك، هناك صهاينة ومتصهينون يصرون على تمرير «صفقة» خاسرة، تخدم إسرائيل فقط... بل إن طرحها سيضيف زيتاً على نار الاضطراب المشتعلة في المنطقة.
عقلاء الصهاينة، أمثال «أفنيري» وغيره، أدركوا أن لا حل لهذا الصراع المفروض على الفلسطينيين والعرب، إلا عبر إقامة دولة واحدة يعيش فيها كل مواطنيها على قدم المساواة. فإن تعذَّر ذلك، فدولتان، كما أجمع المجتمع الدولي. رفض هذين الحلين يعني (بالضرورة): رفضاً قاطعاً للسلام. ولا تكترث إسرائيل بتبعات هذا الرفض، طالما ظلت أمريكا داعمة لها، وفي كل ما يريده حكامها المتطرفون.
إسرائيل ترمي بكل دعوات السلام في مزبلة عنصريتها وتشددها، حتى وإن أتت هذه الدعوات من صهاينة. سيستمر هذا الصراع، وقد يأتي يوم يندم فيه غلاة الصهاينة على تعسفهم وعنادهم هذا، وعملهم على وأد كل محاولات حل الصراع، وإقامة السلام. لقد تلاشى حتى «سراب» السلام... كان سراباً، ومضى. فالصهاينة لا يريدون سلاماً، بل استسلاماً. إنهم يريدون إقامة إسرائيل الكبرى. هم لن يرضوا بما دون ذلك.
* كاتب سعودي